بعد زيارة أكرم لي بما يقرب من الأسبوع، رن جرس الباب في المساء. كانت سارة قد نامت و كنت أنا أتأهب للنوم. فتحت الباب فوجدت أبا سارة لدي الباب. لقد مضي الشهر سريعاً دون أن أشعر و يبدو أنه يريد أجر الشهر الجديد. لم يتغير هذا الرجل، نفس المظهر القذر المنفر و نظرته التي هي مزيج من الشر المتحفز و الذهول الذي يسببه له المخدر. دون أي تحية أو كلمة ترحيب قلت له:
-"لحظة واحدة سأحضر لك المال".
-"أنا لا أريد المال. أريد ابنتي".
يا للوغد. سنعود للمساومة من جديد.
-"كم تريد؟ لن أدفع لك أكثر من خمسين جنيهاً إضافية. إن .... ".
-"قلت لك لا أريد مالاً، بل أريد ابنتي".
قالها بشيء من الإصرار مما جعلني أتوتر.
-"سأدفع لك ثمانمائة جنيه شهرياً. هذا يعني زيادة مائة جنيه".
-"ألا تفهم؟ لا أريد مالاً بل أريد ابنتي، و إن لم تفعل سأبلغ الشرطة بأنك تختطفها. طبقاً للقانون سيقومون بتفتيش المنزل بعد استصدار أمر بهذا، و سيجدونها عندها... "
هذه إذاً هي لعبة رفاييل. ذلك الأحمق لا يدري شيء عن القانون و لا عن الإجراءات القانونية التي تتبع في مثل هذه البلاغات. هناك من أخبره بهذا و دفعه الي طلب أن تعود سارة اليه. هذا يبرر إصراره الشديد. بالطبع وعدوه بمقابل مادي لا بأس به. بالطبع هو لم يسأل عن السبب. عقله أصلاً توقف عن التفكير منذ زمن، كل ما أدركه هو أن هناك مصدراً للمال لا بأس به. دعك بالطبع من أن القانون لا يطبق في هذه المدينة، لكن رفاييل يستطيع أن يتدخل ليجعله يطبق هذه المرة.
-"كم دفعوا لك"؟
نظر الي مذهولاً ثم تلعثم و قال:
-"من هؤلاء؟ أنا لا أعلم عن أي شيء تتحدث".
-"بل أنت تفهمني جيداً. أنا أستطيع أن أدفع لك المبلغ الذي دفعوه لك و أكثر منه قليلاً".
-"لا أريد مالاً. فقط أنا أريد ابنتي. الآن.
قضيت نصف ساعة كاملة في مناقشته دون جدوى. الوغد مصر على أن يعود بابنته و إلا أبلغ الشرطة و أخذها بالقوة. على أن أعطيها له ريثما أسوي هذا الأمر. لا أعلم كيف يمكن أن أوقظها الآن لأخبرها أنها ستترك حياتها الجديدة لتعود الي أبيها. سيبدو الأمر كالكابوس بالنسبة لها. المرعب أن على أنا أن أقوم بهذا الأمر. كنت أتمنى لو يوجد من يمكن أن ألقي عليه هذه المسئولية و لكن للأسف لا يوجد سواي.
صعدت الي الطابق العلوي و أيقظتها. استغرق الأمر خمس دقائق لكي تستيقظ من نومها العميق و تنهض جالسة في الفراش. قلت لها و أنا أتحاشي أن أنظر في عينيها:
-"سارة... إن أبيك هنا و يريدك أن تعودي معه. إنه يريدك أن تعودي الي منزلك القديم لتعيشه معه و مع أمك و... ".
نظرت الي و كأني أقول لها أنها ستعود للحياة مع فرانكنشتاين و ميدوسا. اللعنة. كيف يمكن أن أشرح لها الأمر. اضطربت و قالت و هي على وشك البكاء:
-"ولكني أريد أن أظل هنا".
-"عزيزتي أنا سأزورك هناك بانتظام. إن أباك يحبك و يريد أن يعيش معك فلقد أوحشته كثيراً".
-"كلا، إنه لا يحبني. أنا أريد أن أعيش هنا، معك أنت".
-"أنا أيضا لا أريد أن أبتعد عنك للحظة واحدة ولكنه أباك. انا لا أستطيع أن أمنعه من أن يأخذك للحياة معه. أتفهمينني"؟
هزت رأسها بالإيجاب. قضيت ما يقرب من الربع ساعة في محاولة تهدئتها، ثم ساعدتها في استبدال ثيابها و نزلت بها الي أبيها الذي كان لايزال واقفاً لدي الباب. ما أن رأت أباها حتى زاد ضغط يدها على يدي و بدأت دموعها تسيل من جديد.
أن تعاني هذه الطفلة الضعيفة بدون أن يكون في مقدور أحد أن يساعدها فهذا شيء مخيف، أما أن تنتظر مني أنا المساعدة فهذا ما لا أحتمله. مريع هو الشعور بالعجز. أن يكون هناك من يثق بك و بقدرتك على حمايته بينما أنت عاجز عن أن تقدم له ما هو أكثر من بضع كلمات لا نفع لها.
أمسك أبيها بيدها دون كلمة و أستدار لينصرف و لكني استوقفته:
-"مهلا. انتظر لحظة واحدة".
كانت سارة قد نست أن تأخذ معها أميرة. هي لا تذهب الي أي مكان بدونها، و لكن يبدو أن حزنها أنساها. صعدت الي الطابق العلوي حيث وجدت الدمية في فراش سارة. لقد كانت نائمة و هي تحتضن دميتها كالمعتاد.
نزلت بالدمية في يدي و أعطيتها لسارة. تناولتها في صمت بدون اكتراث بينما دموعها ما زالت تسيل على وجهها الجميل. نظر الي أبيها كمن ينظر الي مجنون، ثم أمسك بيدها و استدار منصرفاً.
بعد أن أغلقت الباب بقيت واقفاً خلفه لوقت لا يعلمه إلا الله. كنت أشبه بالمذهول، عاجز عن التفكير أو فعل أي شيء. هذا ليس عدلاً. ليس عدلاً على الإطلاق. أنا أحق برعاية هذه الفتاة من أبيها، و أي قانون يقول غير هذا فهو قانون أحمق. هذا الرجل لا يؤتمن على رعاية قطيع من الخراف، فما بالك برعاية طفلة. ليس عدلاً أن أحرم منها بعد أن صرت لا أستطيع الحياة بدونها. أفكر من أجلها، أضحك لضحكها و لا أحلم إلا بها. وفي النهاية بعد أن تغلغلت في روحي تماما هذا يأتي هذا الرجل لينتزعها من حياتي. يا له من شعور اليم.
سأدخل لأنام الآن و في الصباح سأحاول أن أجد حلاً لهذا الموضوع. لا أعلم أي وسيلة لحله، ولكني أعلم أني سأجن إن لم أنام الآن.
بالطبع كما يمكنك أن تتخيل لم يغمض لي جفن حتى الصباح. لقد قضيت ليلة لم أقض مثلها في حياتي أتقلب في فراشي كالمحموم و تهاجم رأسي أفكار متضاربة لما يمكن أن أفعله غداً. هل أعرض على ذلك الرجل مبلغاً ضخماً من المال؟ لا لن يجدي هذا، فلقد عرضت عليه الأمر بالفعل ولكنه رفض. في البداية لابد أن أعلم ما الذي أقنعه به رفاييل. هل أراقب منزله و أنتظر حين يتركه لأسأل امرأته عن العرض الذي تلقاه؟ يبدو هذا صعباً، إذ أن هذا الأمر يمسها و غالباً ستتخذ جانب زوجها. هل أسأل رفاييل؟ هذا أخر ما يجب أن أفكر فيه. سيستغل الفرصة ليتلاعب بي و يتلذذ بما أنا فيه.
المشكلة أن صورة سارة و قد عادت الي بيئتها القديمة، الي أبيها فظ المعاملة و أمها المهملة لا تفارق مخيلتي. أن تعود مثل هذه الزهرة الي ذلك المستنقع يبدو أمراً بشعاً. الأفضل لها أن تموت عن أن تحيا حياة مثل هذه.
في الصباح قمت من الفراش وصليت داعياً الله أن يعينني على حل هذه المشكلة التي لا أعلم لها حلاً. حاولت أن أتناسي الموضوع مؤقتاً و أتناول إفطاراً سريعاً، ولكن كل ما حولي كان يذكرني بها. الأغلفة الفارغة للشكولاتة المفضلة لديها، دراجتها، أسطوانات الفيديو التي عليها أفلام الكارتون التي كانت تشاهدها، حتى حين كنت أفتح النافذة أري حمام السباحة الذي كانت تعشقه. و كأنما تآزر الكون على ليزيد من معاناتي.
قضيت اليوم أدور في الفيلا كالحيوان الحبيس. لابد من حل قبل أن أجن، حتى إن أضررت لأن أختطفها بالفعل من بيت أبيها. هذا أفضل من أن أجن.
مضت الساعات، و عند الظهيرة دق جرس الباب. فتحت الباب فوجدت أن الطارق هو أكرم. كان في عينيه مزيج من الاضطراب و الغضب، و ما أن فتحت الباب حتى طوح بقبضته في وجهي. لحسن الحظ تراجعت سريعاً فلم تصب الضربة وجهي، بينما اختل توازن أكرم و كاد أن يسقط أرضاً إلا أني أمسكت بذراعه قبل أن يسقط. ما الذي دهاه هذا الأحمق؟ و كأن ما لدي من مشاكل لا يكفيني؟
تملص أكرم من ذراعي و أخذ يرغي و يزبد بكلمات غير مفهومة و حاول أن يهاجمني ثانية. لحسن الحظ أنه ضعيف. تفاديت ضرباته و أمسكت بكلتا يديه لأمنعه من المزيد من المحاولة و أنا أردد كلمات على غرار "اهدأ" و "ما الذي دهاك" و "دعني أفهم أولاً".
بعد دقائق كانت قواه قد أنهكت و جلس يلهث كالثيران و يحاول أن يتكلم وسط أنفاسه المتقطعة:
-"أنت... هناك حيوانات أفضل منك... لقد ظننت أن... ولكني كنت مخطئاً".
-"ما الذي تتكلم عنه بالضبط؟"
استمر في الكلام و كأنه لم يسمعني:
-"كيف تجرؤ... كيف تطاوعك مشاعرك على أن... لم أتصور أن يصل بك الأمر الى... ".
صرخت فيه:
-"أنا لا أفهم شيئاً".
أجفل و نظر الي بشيء من الاندهاش. قلت له بصوت أهدأ قليلاً:
-"أنت منفعل و أنا ليس لدي أدني فكرة ما الذي تتحدث عنه بالضبط. كلماتك غير مترابطة أو مفهومة. إن أردت أن تتكلم هكذا لآخر اليوم فليست لدي الأعصاب التي تسمح لي بسماعك. اهدأ و أخبرني ما الذي تتحدث عنه".
نظر الي في غضب ثم قال بحدة:
-"أتحدث عن سارة بالطبع".
تنهدت و قلت في حزن:
-"ليس من حقي أن أمنع أبيها أن يستردها. القانون في صفه و أنا ليست لي صفة قانونية تسمح لي... "
بترت عبارتي حين لاحظت نظرة الاستغراب التي لاحظتها على وجهه. قلت له في توتر:
-"أليس هذا ما تقصده؟"
قال في شيء من التردد:
-"لا. أنا أتكلم عن ألعاب الواقع. لم يكن ينبغي أن تجعل سارة تشترك في تلك اللعبة التي.... ".
هنا كنت قد فقدت كل تحكم ممكن في أعصابي و بدأت ركبتي ترتعش. جلست أمامه و قلت بلهجة حاولت الحفاظ عليها هادئة قدر الإمكان:
_"أخبرني بالموضوع من البداية و تكلم معي و كأني لا أعلم شيئاً عن هذا الموضوع".
-"في الصباح، و بينما أقلب قنوات التليفزيون، رأيت إعلاناً فيه صورة فتاة تشبه سارة. كانت تلك القناة هي قناة العاب الواقع، و كان الإعلان عن لعبة جديدة، هي لعبة قتال بين أطفال... قتال حتى الموت، و كان الإعلان يقول إن اللعبة القادمة بين سارة و فتاة أخري. كانت تلك الفتاة تبدو أكبر سنا بكثير من سارة و تبدو عليها علامات الشراسة. لقد ظننت أنك قمت ب... أقصد أنك... ".
لم يكمل عبارته ولكن المعني مفهوم. و أنا الذي ظننت أن لعبة رفاييل هي مجرد أن يحرمني من سارة و يعيدها الي أبيها، ولكن يبدو أن خياله أكثر اتساعا.
قمت الي جهاز الهاتف فطلبت رقم مكتب رفاييل. بعد ثوان من الرنين جاءني صوت سكرتيرته الخاصة:
-"مكتب رفاييل أها.... ".
-"أعطني رفاييل. أنا خالد حسني".
بعد ثوان سمعت صوت رفاييل الهادئ:
-"كنت أنتظر اتصالك منذ ساعات".
-"سأسألك سؤالاً واحداً. هذه اللعبة بموافقة والد سارة، اليس كذلك؟"
-"بالطبع. لقد وقع كل الأوراق الممكنة. بالطبع انت تتساءل كيف أقنعته بأن يترك المبلغ الذي عرضته عليه أنت. لقد عرضت عليه أن تكون ابنته نجمة من نجوم الألعاب. مثلك، و هذا بالطبع سيجعله ثرياً مثلك، بمعني آخر أن تكون ثروته مساوية لثروتك".
-"و بالطبع قبل المخاطرة بابنته؟ هل ظن أن الأمر بهذه السهولة و أن ابنته يمكن أن تفوز في مثل هذه المعركة و تصير من أبطال العاب الواقع"؟
-"بالتأكيد. هو لم يفكر في الموضوع من الأساس. كل ما أدركه هو أن هناك وسيلة سريعة لكسب مبلغ رهيب من المال، والمقابل بسيط، و هو المخاطرة بحياة ابنته. بالطبع لم يتردد كثيراً. بل هو لم يتردد أصلاً. لقد وافق في الحال و ترك ابنته لدينا حتى يحين موعد المعركة. لو كان كل الناس... ".
أغلقت سماعة الهاتف و صعدت الي الطابق العلوي حيث استبدلت ثيابي و نزلت السلم قفزاً و توجهت الي باب الفيلا عدواً أمام عيني أكرم المندهشتين. قال لي:
-"إلى أين أنت... ".
كنت قد خرجت من الفيلا قبل أن ينهي عبارته. كنت أشبه بمن هو تحت تأثير المخدر، أسمع و أري ما يدور حولي و لكن عقلي منفصل تماماً. ركبت سيارتي و انطلقت بها من المرآب بسرعة صاروخية. لم يكن من عادتي يوما التهور في القيادة، ولكني لم أكن أعي ما أفعل. يدي و قدماي تقودان السيارة بينما عقلي شارد تماماً. و رغماً عني سالت دموعي على وجهي.
كيف وصل به الغباء الي أن يصدق أن ابنته الرقيقة الهشة يمكن أن تكون من نجوم الألعاب؟ طوال عمري و أنا مقتنع أن تسعة و تسعين بالمائة من الناس أغبياء، ولكن هذا الرجل وصل الي درجة قياسية غير مسبوقة من الغباء الممزوج بأقصى درجة من درجات انعدام الضمير. لقد قبل الوغد أن يضحي بحياة ابنته في مقابل حلم بالثروة، و كأنما لم يكفيه ما رأته من قسوته في سنوات عمرها القليلة. والآن عليها أن تقاتل و تقتل. عليها أن تتحمل ما لم أستطع أنا الشخص الكبير الناضج تحمله فقط لتجلب لأبيها مالاً لينفقه في شراء المزيد من المخدر. طفلة في الرابعة من العمر عليها أن تتعلم كيف تحمل سلاحاً و كيف تقتل، بدلاً من أن تجد الحنان و الرعاية التي تستحقهما تماما. بدلاً من أن تكون معلوماتها في الحياة هي معلومات عن الدمي الجميلة والألعاب المسلية و أفلام الكارتون، تصبح معلوماتها عن الحياة هي معلومات عن الموت، عن جشع الناس و سعيهم الذي لا يتوقف الي المال، عن العنف و الدموية في أعنف صورها، وكل هذا بدون مبرر إلا أنها فقط ابنة هذا الرجلً. الأدهى من هذا أنه تركها لدي شركة الألعاب حتى يحين موعد المسابقة القادمة. فكرة أن سارة الآن في يد رفاييل و زبانيته هي فكرة مرعبة لا أحتمل أصلاً أن أفكر فيها.
قدت السيارة بجنون الي الجانب الشرقي من المدينة في اتجاه بيت سارة الدموع تشوش الرؤية أمامي. سأكون محظوظاً لو لم أقتل نفسي اليوم في حادث تصادم.
وصلت الي تلك الطرق الضيقة التي لا تستطيع السيارة أن تسير فيها فنزلت من السيارة و دون أن أبالي بأن أغلق الباب خلفي أخذت أعدو في الطرقات الضيقة حتى وصلت الي بيت سارة. أخذت أطرق الباب بأقصى ما في يدي من قوة بدون توقف. انفتح الباب و ظهر الرجل على عتبته متذمراً.
-"ما الذي... ".
قبل أن يتم عبارته جذبته من ثيابه الي خارج البيت و حملته و ضربت بظهره الجدار المجاور للباب بأقصى ما استطعت من قوة، حتى أن عضلات ذراعي آلمتني بشدة.
صرخ الرجل من فرط الألم و المفاجأة. حملته مرة أخري و ضربت ظهره بالجدار مرات عديدة دون أن أبالي بصرخاته. كنت أتمنى أن أسمع صوت عظام عاموده الفقري تتهشم ولكن الوغد بدين، عاموده الفقري أمامه طبقات من الشحوم لا بأس بها. خرجت زوجته و شاهدت المنظر فانفجرت في الصراخ مثل سيارة الإسعاف.
حاول أن يطوح بيده في وجهي ولكني أمسكت ذراعه في اللحظة المناسبة ثم ثنيت ذراعه بأقصى ما استطعت من قوة حتى سمعت صوت عظامه تتهشم. صرخ الرجل في شدة بينما تجمع الناس حولنا دون أن يجرؤ أحدهم على التدخل. يبدو أن مظهري كان رهيباً، بذلك الغضب الجنوني الذي تملكني وقتها. على الرغم من ذراعه المهشمة التي تدلت بدون حركة جوار جسده، إلا أني لم أكتف و لم يهدأ غضبي ولو قليلاً. كنت أتمنى أن أجعله يعاني الي أقصي درجة ممكنة.
أمسكت عنقه و أخذت أضرب رأسه بالجدار مرات متتالية بدون توقف.
بعد بضع ضربات توقفت صرخاته و تراخي جسده. تركت عنقه فسقط أرضاً بدون حراك. تحسست عنقه فلم أجد نبضاً. لقد مات. القت زوجته بنفسها فوق جسده الهامد و أخذت تصرخ و تلطم وجهها.
تركت جسده ملقي أرضاً و توجهت الي حيث تركت السيارة، بينما أفسح الناس الذين أحاطوا بالمكان الطريق لي في شيء من الرهبة. هذه هي أول مرة في حياتي أقتل فيها شخصاً دون أن أشعر بذرة من الندم. بل بالعكس، أشعر أني لم أنتقم منه بما يكفي. لا توجد عقوبة في الحياة تكفي كمقابل لما فعله هذا الوغد بابنته و بي. الآن أتفهم شعور إدموند دانتيس بطل قصة الكونت دي مونت كريستو حين شعر أن الموت لا يكفي كعقاب لمن أضاعوا حبيبته و تسببوا في سجنه و موت أبيه جوعاً. عزائي الوحيد أني أعلم أن هناك عقاباً ينتظر ذلك الوغد يوم القيامة، الأمر الذي لم يضعه إدموند دانتيس في اعتباره.
سرت بخطوات بطيئة متثاقلة ثم استرعى انتباهي شيء ملقي على الأرض على بعد خطوات من بيت سارة. كانت أميرة ملقاة على الأرض. لابد أنها سقطت من يد سارة أو ألقاها أباها هنا. سارة لا تتخلي عن دميتها أبداً، لابد أن أباها أجبرها على تركها أو إلقائها هنا قبل أن تذهب إلى شركة الألعاب.
رفعت الدمية من الأرض. كانت تفوح برائحة ذلك العطر الذي اشتريته لسارة يوم أخذتها الي داري، و الذي صار رائحتها المميزة فيما بعد. هذه الدمية كانت هي الوسيلة التي دخلت سارة بها الي حياتي لتغيرها الي ما هو أجمل بما لا يقاس. دون أن أشعر ضممت الدمية الي صدري و انفجرت في البكاء.
-"ما هي الحلوى التي تحبينها؟ أتحبين الشكولاتة؟
نظرت لي في استغراب و دهشة. في البداية ظننت أنها تري السؤال بديهيا، إذ أن كل الأطفال يحبون الشكولاتة، ثم فطنت الي أنها لم تسمع الكلمة من قبل أساساً. لا أدري هل هذا بسبب فقرها أم صغر سنها.
-"ما هذا"؟
"هذه و ليس هذا. هذه تسمي زهرة".
-"هذا ثوب".
-"ولكنه ليس مثل الباقيين".
-"لا تتركني وحدي يا عم خالد".
كل الأطفال الذين يبدون كالشياطين في يقظتهم يبدون كالملائكة عندما ينامون، فما بالك بالطفلة التي تبدو كالملاك و هي متيقظة، كيف تبدو عندما تنام؟
-"أنت لا تجيد الكذب يا خالد. على الأقل لم تجده اليوم".
-"كلا، إنه لا يحبني. أنا أريد أن أعيش هنا، معك أنت".
مريع هو الشعور بالعجز. أن يكون هناك من يثق بك و بقدرتك على حمايته بينما أنت عاجز عن أن تقدم له ما هو أكثر من بضع كلمات لا نفع لها.