5

25 0 00

*** كان الشغل الشاغل لسعيد بعد هذه الأمسية الغريبة ، أن يحقق ما وعد به الأب ، و في سبيل ذلك ذهب إلى وزارة التعليم و سأل عن الطريقة التي يمكن لفلسطينية

إكمال تعليمـــها العـــالي و دهش عنـــدما عـــرف أن للفلسطنيــين نسبـــة 5% في مقاعد الدراسة و ازدادت فرحته بهذا النبأ عندما وجد أحد معارفه القدامى في

الوزارة ، يرشده على طريقة التقديم و يعده أن يكون مع الورق حين يذهب إلى مكتب التنسيق بعد ثلاثة شهور •• كانت الأمور تجري على خير ما يرام ، بل على أكثر مما

توقع ، تحمل سخرية صديقه و هو يراه مهتما بهذه الفتاة و لم يصدق أن هذا الاهتمام لا يعدو كونه عملا إنسانيا في المقام الاول قال له :

 أنا أعرف ذوقك تماما و أعرف أيضا أن الفلسطنيات جميلات ، فإذا كانت هذه الفتاة على درجة الجمال التي أتوقعها فإنني لن أخذلك أبدا ، ناهيك عن أن معظم الفلسطنيين

لا يتقدمون لإكمال دراستهم لقلة المعلومات عندهم و لقلة ذات اليد في أحيان كثيرة و لذا فإن مقاعد الدراسة في نسبتهم المقررة سنويا يبقى أكثر من ربعها فارغا

•• فاطمئن ، حبيبة القلب ستجد مقعدا •• همس سعيد مستبشرا :

 إن شاء الله •• و عندما سار في اتجاه منزلهم ليخبرهم بالبشرى ، كان يحدث نفسه بأن صديقه هذا لا يفهم و لن يفهم ، ثم فجأة سأل نفسه : و ما الذي تفهمه أنت ،

ما الذي يدفعك إلى كل هذا ، لماذا تفرغت للسؤال ، هل هو الخجل من أن أبدو كاذبا أمامهم ، و ماذا يعنيني في هـــذا ، يا جاري أنت في حالك و أنا في حالي •• أم

هي عيونها الحزينة ؟ إذن هي الشفقة أيها الرجل ؟ •• لا ليست الشفقة ، ليس في حياتهم ما يدعو للشفقة ، لم يمدوا يدهم ليستجدوا إحسانا ، أنت من عرضت و أنت من

فكرت ، و بناء على عرضك و قرارك سيسافر الأب ، هل هو الإحساس بالذنب ، لا •• فكما قال الأب كثيرون يسافرون ، و ربما كان سفره فاتحة خير عليه و عليهم ، إذن ما

هو ، ما الذي يدفعك إلى كل هذا العناء ••؟ عندما اقترب من الشارع تمنى أن يراها ، ثم أنب نفسه بسرعة :

 و لماذا هي بالذات •• بعد دقائق سوف ترى الأب و تخبره أنك لم تكن كاذبا و تبشره بأن ريم ستلتحق بالجامعة إن شاء الله ، و لكن •• ليتها تفتح على الأقل الباب

!! لم يتحقق له ما تمنى و عوضا عن ذلك فتح الأب الباب ، بدا و كأن ليلة سهد طويلة عاشها البارحة ، كان ذابلا ، داكن البشرة ، مشوش الرأس و في فمه سيجارة كأنه

يمضغها ، ابتسم فور رؤيته للأستاذ سعيد و نزع السيجارة و فتح باب الصالون و أدخله مصحوبا بعبارات الترحيب المعتادة و عندما أطفأ سيجارته في المطفأة ، كان سعيد

يبادره بقلق :

 ما بك يا عم جهاد ؟ هز رأسه نافيا أن يكون هناك شيء و لم يقو على الكلام ••شعر سعيد بقلق مفاجيء ، انتظر قليلا قبل أن يعاود السؤال ، و لدهشته فوجيء بالأب

يبكي •• نعم هكذا فجأة انخرط الرجل العجوز في بكاء غريب ، كانت كل أعضاؤه تتحرك حركة قوية ، ترتفع اكتافه و يغوص رأسه بين ذراعيه و و يعلو ظهره و ينخفض •• كان

الرجل يحاول إسكات نفسه ، يكتم أنفاسه ، يقاوم نهنهاته ، و سعيد واقف لا يدري ماذا يقول ••

 وحد الله يا عم جهاد ، وحد الله يا رجل •• أين زوجتك ، أين ريم ؟ نريد كوب ماء •• قال الأب و هو يهز رأسه :

 لا أحد هنا ذهب الجميع إلى السوق ••

 سأحضرها بنفسي إذن •• هم الأب أن يمنعه إلا أنه كان أضعف من ذلك فربت سعيد على يده و خرج من الغرفة •• لاول مرة يرى منزل ريم من الداخل ، خمن موقع المطبخ و

توجه إليه مباشرة ، جلب ماءً من البراد و لفت نظره و هو في طريقه للخروج باب الغرفة التي تطل على شرفته ••

 لابد أنها غرفة ريم ••

شيئا ما أقوى منه دفعه إلى دخول الغرفة بخطوات حذرة كأنه يدخل صومعة راهب •• أول ما لفت نظره كان فراشها •• كان مرتبا و عاديا ، إلا أن شيئا فيه أعجبه ، شيء

لا يراه البشر ، مد يده تحسسه •• ثم لفتت انتباهه اللوحة المعلقة على الحائط فوق السرير ، كانت لمنظر طبيعي وقت الغروب ، و رغم أن اللوحة كانت ترسم بدقة هذا

المنظر إلا أن شيئا مخيفا كان فيها •• إحساس بالرهبة يشعر به من ينظر إليها لا يدري مبعثه ••

 هذا رسمها •• التفت بسرعة إلى الأب الذي كانت يده تسكن كتفه و نظرة لوم صغيرة تقبع في عيونه المغسولة بالدموع للتو •• ارتبك سعيد أيما ارتباك و اهتز كوب الماء

في يده فسقطت منه بضع قطرات على الأرض ، مسحها بحذائه و لم يدر ما يقول فآثر الصمت

 هنا كل مملكة ريم ، إنها ترسم أحيانا من الصباح إلى المساء ، انظر هذا حامل الرسم الذي ترسم عليه •• توجه الأب إلى الحامل بخطوات واهنة و رفع الغطاء بأصابع

مرتجفة و قال:

 تأمل معي •• وقف سعيد يطالع الرسم أمامه ، كانت خطوط مبدئية بالفحم لفتاة منهكة تعتلي جبل عال و عند السفح بحيرة صغيرة نبت الصبار على جانبيها و عند القمة

سحابة مثقلة •• أشار الأب على البحيرة و قال :

هذه ليست بحيرة ، إنها سراب •• هز سعيد رأسه و قال :

لاحظت الصبار •• جلس الأب على حافة السرير و قال كأنه يكمل حديثا :

هذه اللوحة ترسم حلما شاهدته ريم قبل فترة •• لم انتبه إنه يصلح لوحة •• مد سعيد كوب الماء إلى الأب مبتسما فأخذه منه و تبلغ ببعضه و ظل الكوب في يده ، قال

سعيد :

 لماذا كنت حزينا يا عم جهاد ؟ أطرق العم جهاد قليلا و تطلع حوله ثم نهض و قال لسعيد :

 تعال •• سأعد شايا ••

توجه كلاهما إلى المطبخ ، كان العم جهاد يعرف مكان كل شيء بالضبط ، و عندما فتح خزانة المطبخ ليخرج منها الأكواب تنهد و قال :

 أنا صنعتها •• هذه الخزانة ، و طقم الصالون و سرير ريم و سرير قاسم و حتى طاولة التلفاز ، تلك في واجهة الصالة •• أومأ سعيد برأسه و قال :

 فنان و الله يا عم جهاد ، إنها قطع جميلة و متينة •• ليس مــستغربا أن تكون ريم فنانة و هي ابنتك •• ربت الأب على كتف سعيد ممتنا للمجاملة و صب الشاي و تقدمه

في الخروج و الاتجاه إلى غرفة الصالون ، و عندما وضع الشاي على الطاولة و تناول كل منهما كوبه قال العم جهاد :

خيرا يا بني ؟ ابتسم سعيد مرة اخرى و قال :

بل هو كل خير إن شاء الله ، وجدت من يساعدني في تقديم أوراق ريم للعام الدراسي الجديد ، و لقد وعدني خيرا و عنـدما يحين موعـــد التقديم ســأكون معها و إن

هي إلا أيام و تظهر النتيجة و إذا ريم طالبة جامعية كما تمنيت •• ابتسم الأب ممتنا و قال :

 على بركة الله •• أتعبناك معنا يا أستاذ سعيد و شغلناك بهمومنا •• هز سعيد رأسه رافضا الكلمة و قال بصدق :

لا تقلها يا عم جهاد ، أنت مثل أبي و أولادك إخوتي ••

 بارك الله فيك يا بني ، و أعطاك على قدر نيتك ••

 عم جهاد •• إذا سمحت لي ما الذي أحزنك حد البكاء ، لقد أفجعتني •• ابتسم الأب ابتسامة صغيرة حزينة و قال :

 لو شاهدوني لماتوا رعبا ، كانت الفرصة الوحيدة لي للتنفيس عن مشاعري ، خروجهم للسوق أتاح لي أن افعل ما كنت أقاومه و بشدة ••

 و لكن لماذا الحزن يا عم جهاد ، إذا كنت لا ترغب في السفر ابق و مصاريف الدراسة يدبرها الله ••

 أنت لا تفهم يا أستاذ سعيد ، أنا لا أسافر من أجل مصاريف قد أستطيع تدبيرها إذا بقيت ، إنني أذهب و أنا أعلم تمام العلم أن أمامي دربا طويلا طويلا ، دربا تأخرت

عن المشي فيه بسبب نوازع العاطفة و رغبتي في عدم ترك أولادي ، و أسلكه اليوم بسبب نوازع العاطفة أيضا و بسبب العقل •• قدر محتوم ظللت أخافه و أهرب منه و أتحاشاه

قدر الإمكان لكــــن آن الأوان أن أرضـــــخ له و أن أترك سيـــفه يجتز أمني و استـقراري و راحتي •• قاسم في الصف الأول ثانوي ، هل تعرف ما يعنيه هذا ؟

 بقي له عامان و يدخل الجامعة ••

 بالضبط ، لن تكون ريم قد أكملت دراستها ، و ستتضاعف المسئولية •• و سمر هذه الصغيرة بعد عام بدورها ستدخل المدرسة ، مدرسة خاصة مصاريفها فوق القدرة و الاحتمال

، لكنني لن أحرمها حقها في العلم ، أولادي يا أستاذ سعيد هم الشيء الحقيقي الوحيد الذي منحه الله لي •• الشيء الذي لا ينازعني على ملكيـته مخلوق ، الوطن الذي

لا ينتمي إلا لي و لا أنتمي إلا له ، و من حقهم أن أبذل من أجلهم كل غال و نفيس ••

لكنك بذلت بالفعل ••

مازالوا بحاجة لبذل المزيد •• نهض العم جهاد واقفا و ، استشرف من باب الصالون منزله ، كان يمسك بيده حاجز الباب كأن الحاجز يسنده ، تكلم إلى لا أحد قال بصوت

واهن ••:

 في هذا البيت عشت عشرين عاما ، دخلته بالضبط يوم تزوجت سميحة عام 66 ، كان إيجاره تلك الأيام 561 قرش صاغا •• ارتفع مرتين فقط خلال هذه السنين و توقف منذ أكثر

من عشر سنوات على ثلاثة جنيهات و نصف •• تعمدت أن يكون زواجي في اليوم الاول من العام الجديد لكي اؤرخ به لنفسي ، لأقــــول أنني أعلنــت دولتي في هـــذا العام

و أرسيت رايتي في هذا اليوم •• ضحكت سميحة كثيرا وقت أن أخبرتها بهذا الكلام ، كانت عروسا جميلة ، جميلة جدا ، كانت فوق أحلامي لولا كرم عم صابر يرحمه الله

معي آنذاك ، و كرمها هي •• لقد تزوجت غريبا ، أرضه منهوبة و لا يعرف متى سيكون له وطن •• تزوجت إنسانا مثقلا بهموم الفراق ، يقيده شوق لا منتهي إلى أم و أب

و إخوة تفرقوا ذات يوم ، أتصدق يا أستاذ سعيد •• و إلتفت إليه كان سعيد يطالعه بحنان و إصغاء كامل ، أكمل :

 أنا لا أزوج ابنتي لشخص مثلي لو كنت في ظروفهم •• هذا صحيح •• لكنهم فعلوها ، فلماذا إذن ضحكت سميحة يوم أخبرتها أنني صار لي وطن بزواجنا ••؟ ضحك ضحكة صغيرة

و فرك يديه و أكمل :

السفر أمر أريده و يحتمه الواقع و مصلحة الأبناء ، و لكنه قاس ، مر ، يعني فراقا جديدا في حياة إنسان الفراق نصيبه منذ خلقه الله ••أتدري يا أستاذ سعيد ••؟

تطلع إلى وجهه مليا ، لكنه لم يكن يرى ملامح ، لم تسجل ذاكرته في تلك اللحظة إلا شكلا هلاميا كان يعيش داخله منذ سنين ، قال بصوت واهن :

 اليوم فقط شعرت أن أبي مات •• أحن إليه كثيرا •• أشعر أنني كنت عاقا عندما تركته يموت في أرض غريبة و لست معه ، علمت بخبر وفاته بعد سنة كاملة من موته ، مثلي

مثل الغريب •• عندما أعلنتها حدادا في المنزل ، لم يفهم الصغار لماذا عليهم ان يطفئوا التلفاز و الراديو و لماذا تلبس أمهم السواد ، عندما حدثتهم عن أبي ظنوا

الحديث عن جدهم صابر يرحمه الله و قالوا أنه مات منذ زمن بعيد فلماذا الحزن الآن •• لم أكمل أيام الحداد الثلاث •• قطعتها لأنني وجدت نفسي سخيفا ، لن يشعر هؤلاء

و هم قطعة مني بمقدار حزني فكيف سيشعر به أي معز جاء من قبيل المجاملة و شرب القهوة السوداء على روح رجل لا يعرفه •• تعاظم يومها شوقي إليه و لكنه كان شوقا

يشبه أياما كثيرة سبقته و سيشبه أياما كثيرة مقبلة •• و قلت أبي لم يمت ، و ليكن الخبر كاذبا •• يوما ما تنتهي سنين غربتي و ارتهاني بعيدا عن وطني و سأعود لاجد

أبي في ساحة دارنا يدخن سيجارته و أمي تصيح علينا •• ابتعدوا عن البئر ، يوما ما سيموت أحد أولادنا في هذا البئر •• أشعر بذلك •• كانت دائما تقول هذه العبارة

••

أحس أنني سأعود لأجد كل هذا أمامي مجددا ، الجمــــيع ينـــتظرني ، إخوتي و أنا و أمي و أبي يرحمه الله •• حلمت كثيرا بعودتي تلك ، و كنت قد قررتها مرارا خلال

العامين الاولين على قدومي هنا ، لكنني كنت اخشى غضبة أمي حينما تراني و تعرف انني بعد لم أجد طريقي •• حين جمعتنا بعد سفر أبي قالت تفرقوا و ابحثوا عن طريقكم

و لا تعودوا إلا و كل واحد منكم قد وجد طريقه •• خفت أن أعود فتسألني :"هل وجدت الطريق يا جهاد ؟" فأقول لها: "بعد يا أمي" فتقول :"و لماذا عدت ؟" فأقول :"الشوق

والحنين" فتقول :"يا عيب الشوم على الرجال ••" و لم اعد و في 67 انتهى آخر أمل لي بالعودة ، أصـــبح بحر غزة رهين الاحـــتلال بدوره ، و اصبح أختيار العودة

الذي كنت اراود نفسي عنه و أمنيها به أمرا من الماضي •• هل تصدق هذا يا أستاذ •• بيتي و بلدي و أمي و إخوتي على بعد قليل مني و لم أرهم منذ عشرين عاما •• عشرين

عاما يا أستاذ •• أليس كثيرا هذا الزمن ؟ بل هو أكثر من كثير ، أكثر من كثير و الله العظيم ••

هذه المرة كان البكاء من نصيب سعيد ، كانت دموعه الصامتة تسقط رغما عنه ، كان أمامه رجل يتعذب بنبل منقطع النظير ، يعذبه شـــوق وواجب و حنين قاهر ، مسؤولية

و ذكريات و حياة تريد دوما المزيد ••

عندما ران الصمت على الغرفة ، لم يجرؤ سعيد على اختراقه ، كان يعلم أن جو الغرفة مثقل بكلام أهم بكثير من أية كلمة يمكن أن تقال ، كان يشعر أن كلمة واحدة تخرج

منه كفيلة بأن تسمه بالسخف طوال العمر ، صمت ، راقب العم جهاد و هو يضع وجهه بين راحتيه ، سمع تنهداته الحرى ، لاحظ الارتعاشة التي كانت تسري في يديه و يقاومها

الرجل فلا يستطيع و تغلبه ، فيمعن في دفن وجهه فيهما حتى لا يلمس هو الغريب ضعفا في هذا القوي القادم من خلف حدود سيناء ••

نهض سعيد بعد قليل و سار باتجاه الباب بخطوات متثاقلة ، لم يتطلع خلفه ، كان يريد أن يتنفس هواءً نقيا و كان حسابا عسيرا ينتظره خارج حدود هذا البيت ، حسابا

لابد أن يقابله بعد أن قابل هذا المطعون في قلبه منذ سنين و رغم ذلك لديه القوة على إعطاء أولاده بقية من نزف روحه لكي يعيشوا ، عندما فتح الباب و خرج و أغلقه

خلفه ، أخذ نفسا عميقا و توجه بخطوات سريعة إلى منزله ، فتح الباب ، وقف أمام المرآة لم ينتظر حتى أن يغلق بابه صاح لصورته المتأنقة :

 تافه ••

بدا و كأن مشوار السوق لن ينتهي بالنسبة لريم و إخوتها ، فيما حرصت الأم على دخول كل محل تجد فيه شيئا قد يحتاجه زوجها في غربته •• الأثواب الفضفاضة الفاتحة

الالوان من أجل أخذ راحته بعد عودته للمنزل ، افرولات العمل ، المناشف ، الملابس الداخلية ، العطارة : بهارات ، و زعتر و ملح و الشيح لزوم البرد و الصابون المصنع

من زيت الزيتون فهو لا يحب الشامبو ، و ليفة حمام جديدة و فرشاة أسنان و معجون و فرشاة شعر ، و زيت شعر ، و كانت الأم تتلفت على كل محل و تسأل الاولاد :

هل نسيت شيء؟ فيهزون رؤوسهم فلا تقتنع و لابد أن تتذكر شيئا جديدا كلما نظرت في واجهات المحلات •• و أخيرا تذكرت الحقيبة التي ستحمل كل الاشياء ، و عندما استقرت

في يد ريم فيما استقرت بقية الأغراض موزعة بين قاسم و بينها ، شعرت و هي تنظر للحقيبة الكبيرة بغصة فظلت تتمتم داخل نفسها بأدعية كثيرة تسأل الله فيها تقصير

أيام الغربة و سرعة تحقيق الهدف و تستعيذ من أولاد الحرام و أفكار سوداء ألحت عليها ••

 ماذا لو مات الرجل في غربته •• ماذا لو تيتم أولادها و هم ما زالوا في أمس الحاجة إلى أبيهم يزود عنهم مصائب الحياة ، من سيزوج ريم و من سيختار لقاسم كليته

و يخطط معه مستقبله ، من سيدلل سمر و يضعها في حجره كل مساء و يطعمها بيده و يدافع عنها ضد احتجاجات إخوتها •• من ، و آه من هــــذه المن •• من ســـيشاركها

ليلها الطــــويل و فراشها الكبير ، و همومها الصغيرة ، لم تعرف لنفسها منذ مات أبوها أحدا سوى زوجها •• لم تعرف حقا معنى الفراق الذي عانى منه زوجها طوبلا

و تقلب من أجله على فراش الشوك سنين عمره كلها ، فهل آن الآوان أن تطعمه ، هل ستعيش ما بقي لها من أيام تعاني شوقا و حنينا ، لقد كان رجلا فلم يكن يبكي ، أما

هي فهل تملك إلا الدموع ، هل ستصبح الدموع سلوتها حتى يعود زوجها •• و ما بال الأخريات ، نصف نساء الشارع أزواجهن يعملون خارج مصر ، لماذا يخيفها عمل الرجل

في الخارج و هو الأمر الذي اعتاد عليه الجميع ، هزت رأسها و كأنها كانت تكمل حديثا مع أولادها سمعوها تقول :

 و ماذا لو سافر •• إنه ذاهب إلى أطهر أرض •• بلد المصطفى عليه السلام •• سيعمل سنة أو سنتين ثم يعود ، و ننسى الغربة ، و يتعلم الأولاد و تصبح الحياة أفضل

و ربما صار لنا بيتا نملكه •• أليس كذلك يا أولاد ••؟ لم يرد احد ، و هي لم تنتظر حتى أن تسمع همهماتهم ، أرخت طرحتها السوداء الشفافة على وجهها و كأنها تدرء

بها رياحا وقضمت طرفها باسنانها و سمحت لدموعها أن تسقط بهدوء •

***

أزف موعد الرحيل و هذه الليلة كانت آخر ليلة ، هكذا سماها الأب و هو يبتسم مشجعا لأهل بيته بينما يضع آخر حمولة مما حمله اليوم إليهم من السوق ، كل أنواع الأطعمة

التي تكفي البيت شهرا ، أحضر الدقيق و الأرز و السكر و الزيت و السمن و حتى علب الكبريت و علب البسكويت التي تحبها سمر و الصابون الذي يحتاجه البيت و لحم كثير

و خبز أيضا كل شيء أحضره الأب و حمله معه قاسم قال :

 إيه يا أولاد ، هذه هي آخر ليلة أبيتها معكم •• هل تحتاجون لشيء بعد •• كانت الأم و الابنة تحملان المواد بين الصالة و المطبخ و الأم تقول :

لما كل هذه الأغراض ، هل ستنتهي الدنيا فلن نجد قوت يومنا ، أم هل سيتوقف العالم عن توفير الحاجيات ، ما كل هذا يا أبا قاسم ؟ و يتمتم الأب من بين غمامات رهبته

المخفية :

 ستحتاجون هذه الأغراض ، لست أعرف متى سأتمكن من إرسال النقود إليكم ، لا أحد يعرف ظروف الغربة الجديدة •• بعد ساعة كان الجميع حول سفرة العشاء ، و بدا أن الكل

يزدرد طعامه إزدرادا فلا يستسيغه و لا يحس له طعما ، و خيم الصمت ، و بعد العشاء و فيما أكواب الشاي تدار على الجميع قال الأب :

 ريم و قاسم ، أريد منكما عهودا و مواثيق ، و أريد صـــدقا و مســــئولية ، و أريد صبرا و طريقا مستقيما لا يصيبه العوج لأي سبب كان ، فهل أجد ما أريد لديكم

؟ أخفت ريم وجهها خلف جرم أمها و لم تنطق ، في الواقع كانت جدا مقلة في الكلام في الأيام الأخيرة فيما تحدث قاسم كرجل قال :

 لك ما تريد و أكثر يا أبي •• أنت تسافر و قد تركت رجلا هنا بين أهلك ، لا تخف ، نحن نقدر تماما غربتك من أجلنا و لن تسمع عنـــا أو ترى إلا كل ما يريحك و يطــــمئن

بــالك و يشعرك إنك لم تكن مخطئا حين اعتمدت علينا في إدارة شؤون حياتنا بدونك و إلى وقت قصير فقط إن شاء الله ••

 بارك الله فيك يا بني ، و أنت يا ريم ما هو ردك ••؟ حاول أن يرى وجهها ، لأول مرة منذ أسبوع على الأقل يبحث عن وجهها ، كانت تتعمد ألا يراها ، و كان يتعمد

ألا يراها ، كان يشعر أن حبل موصول من حديث لا ينقطع موجود بين قلبيهما و أن الحديث مهما بدا مهما لا يعني شيئا ، كان واثقا أشد الثقة فيها و يعلم كم تتعذب

و يعلم أنها تحمل ضميرها الغض مسؤولية غربته القادمة ، لذا آثر و آثرت الصمت ، لكنه الليلة كان مصرا على قطع هذا الصمت ، على اخراج الكلام من قلب قلبها و من

قلب قلبه رفقا بها و بنفسه ، لذا أصر على مواجهتها ، أصر على أن تقابل عيونه عيونها و أن يتحدثا الحديث الذي منعاه منذ قرار السفر ، ظل مـــركزا نظره باتجــــاههـا

و ظلت لفترة قليلة مختفية وراء أمها ، إلا أنها لمست نظراته عليها و شعرت بها حريقا في جسدها و نداءً ملء وجدانها و لابد أن تلبيه ، أخرجت نفـــسها من حيز الخفاء

المتعمد و تطلعت إلى أبيها ، كانت عيونها مغسولة و حزينة و مليئة بالكلام ، ظلت صامتة ، حاولت أن تشد الكلام من أعماقها لكن الحروف كانت عصية ، غريبة لا تحمل

معنى ، حركت فكيها و بدا أن همهمة خرجت منها و لكن صوتا لم يسمعه أحد منها •• تقلصت ملامحها و حرقها أنفها فكزت على شفتيها و انــدفــــع قلبها في دقــات ســـريعة

متـهورة و عنيفة و لم تشعر بنفسها إلا و عبراتها تطارد بعضها بعضا في سباق محموم ، التفتت إليها الأم ، نظرت إلى الأب ، دعته أن يفعل شيئا بعيونها و استـــجاب

الأب ، تنــحت الأم و جلس الأب بجوارها ، مد يده إلى خدودها ، مسح سيل الدموع و أسكن رأسها كتفه ، ربت عليها و قالت هي بصوت عال ، عال أكثر مما توقعت :

 لا تسافر يا أبي ، أتوسل إليك •• و انخرطت في بكاء عنيف عنيف ، بكاء ظل حبيس صدرها الشفاف طيلة أسبوع ، شعرت أن أوردتها منتفخة حد الانفجار و رأسها ثقيل لا

تكاد تطيقه و عيونها سكنتها النار حتى أصبحت عروقها الحمراء تحمل لسعات من لهب كلما اغمضتهما تزيح دمعا •• كان قلب المسكينة ينفطر ، كانت تشعر أنها تقتلع من

جذورها ، أنها تطيح في فضاء ليس تحته أرض و لا فوقه سماء ، و الجميع تفهم ، الجميع صمت احتراما لنحيبها العالي ، حتى أبوها الذي كان يشعر بها فوق كتفيه كزلزال

يتحرك و أمطار تتساقط ، كان صامتا ، لم يربت عليها لئلا يجرح حزنها •• صمت الجميع حتى انتهت من بكائها و ابتعدت عن كتف أبيها و قالت بهدوء يحمل بقايا نشيج ••:

آسفة •• قال الأب و هو يغالب ضعفه و يحاول أن يتناسى تماما ما حدث و يجرهم جميعا إلى جو آخر :

 سوف تكون جدة مرفأي الأول هناك ، و منها سوف يتم توزيعنا إن شاء الله على أعمال البناء ، و أسأل الله أن يكون نصيبي في أعمال توسعة الحرم الشريف بمكة ، ادعو

لي أن يحقق الله طلبي •• صمت و هو يستمع إلى دعائهم له و نظر إلى ريم و هي تلتقط أنفاسها بصعوبة و تقول :

 إن شاء الله ستذهب هناك يا أبي •• ابتسم الأب و ربت كتفها و قال :

 فرصة لأداء فريضة الحج أيضا عسى ربي يتقبلها و يعينني على أدائها و أداء أعمالي ، فإذا كان العام التالي حججت عن أبي يرحمه الله •• شهقت ريم و قالت :

العام التالي يا أبي ؟ ابتسم بهدوء و هو يقول :

لست ذاهبا في نزهة يا حبة القلب •• العمل عمل و لا أدري متى ينتهي أو كيف سيسير فلا تفزعي ، بامكاني الحضور في الأجازات ، عادي جدا مثل كل رجال شارعنا المسافرين

، و عندما أعود في الأجازات سوف أكون محملا بالهدايا التي تريدون و الذهب لأمكم هذه المسكينة التي لم ترتد إلا هذه الأسورة منذ تزوجنا •• ابتسمت سميحة بوهن

و تمتمت بدعاء ، لم تكن تريد خلق حوار أو المشاركة فيه ، فالليلة ملك الأولاد و أبيهم ، أما هي فيكفيها ساعة خلوة مع زوجها تبثه خلالها لواعج قلبها ، بدون أن

يسمع أولادها ما تقول و لا يشعر بحزنها هذا الـكــــم من الملتاعين ، هدهدت سمر و هي تغالب النوم على حجرها ، و عندما مد الأب يده ليحملها أعانته فلما استقرت

في حضنه مال عليها و قبلها و أكمل :

 و لسمر أيضا بعض الذهب ، و لك بالطبع يا ريم ، أما أنت يا قاسم فعندما أعود سيكون نصيبك سيارة ، سوف تكون كبرت يا ولد ، كبرت و طولت أكثر و صـــار لابد للــطبيب

او المهندس قاسم من سيارة يذهب بها إلى كليته و يعود ، أليس كذلك ؟ التفت الأولاد حول أبيهم ، يوزع عليهم لمساته و مداعباته ووعوده الجميلة لهم ، تشرق دموعهم

لحظة و تصدح ضحكاتهم لحــــظة و بين هــــذه و تلــك يربت الأب الحاني الظـــهور و يقرص الخدود و يشير بدعابة إلى هذا و إلى هذه و يمسح دمعة هنا و يأمن على

دعوة هناك ، يضحك و يضحك ، و الألم في قلبه يعتصره و يود لو يفتح قلبه فيودع هؤلاء فيه و يصحبهم معه أينما حل ، أو راح •• *** عندما جلس الأب آخر الليل على

طرف فراشه ، كانت قدماه ترتجفان و يداه ترتعشان ، ارتجافة قلق و ارتعاشة خوف ، كان يحاول اسكـــاتهم عن الحركة فتظاهر بانه يدفء يديه و أخذ يفركهما ، كانت سميحة

تراقبه بصمت و عند لحظـــة فاصلة وضعت يدها على يده و احتوتهما و قالت بحزم :

 كفى لقد أدميتهما •• استكانت كفوفه بين راحتيها و هدأ قليلا ، ابتسم و قال :

 يجب المحافظة عليهما ، سأحتاجهما كثيرا هناك ، أليس كذلك ؟ أومأت برأسها مبتسمة و ظلت تدلكهما برفق و قالت :

 كان لحديثك مع الأولاد الليلة وقع السحر في نفوسهم ، حتى ريم التي لم تكف عن البكاء منذ اتخذت قرارك ، كانت تضحك و تحدثت آخر الليل بانطلاق كعادتها •• سحب

الأب يديه من يديها بهدوء و ربت على كفيها و نهض ففتح شباك الغرفة ، تطلع منه ، كان كل شيء هادئا في الخارج ، و كان الصمت يلف المكان متضافرا مع الليل ، على

أن النجوم كانت تلمع على البعد كأنها توجه تحية ، أخذ جهاد نفسا عميقا و قال دون ان يستدير :

 هل نسيت شيئا يا سميحة ؟ لم يعد هناك وقت ، و أعتقد أنني نسيت إحضار بعض الأغراض •• نهضت سميحة فوقفت بجواره بعد أن أفسح لها مكانا ، أطلت على السماء و لم

تتكلم ، قال :

 منذ زمن بعيد لم نقف هنا لنراقب السماء ، تبدو مألوفة رغم أننا هجرناها زمنا طويلا ••حتى هذه النجوم التي تلمع ، أشعر أنها تعبر عن فرحتها بعودتنا إليها ،

أليس كذلك ؟ تنهدت سميحة و قالت بصوت هاديء :

 منذ ولدت ريم لم تجمعنا هذه النافذة ، بعد زواجنا بعشرة شهور فقط ، انشغلنا بعدها بالتفاصيل الصغيرة للحياة حتى ابتلعتنا الدوامة و أصبح الوقوف هنا بعضا من

بعض الترف الذي لا تحتمله حياتنا •• زحف بأصابعه حتى لامس أصابعها قبض عليهم و قبضت عليه ، قال :

 عانيت كثيرا يا سميحة ، لم تكــــن حيــاتنا نزهة كما تمنيت ، كانت كمـــا تـــوقع أبوك و اكثر ، رحلة سفر متعبة ، مع رجل غريب •• التفتت إليه سميحة بسرعة

، وضعت يدها على فمه قبل أن يسترسل ، قالت :

 لا تقلها يا أبا العيال ، حياتنا كانت شاقة لكنها لم تكن مستحيلة ، لم تكن سيئة ، الحب و التفاهم و الثقة التي جمعتنا جعلت من حياتنا جنة رغم الفقر و سعادة

رغم تبعات الحياة ، لا أعتقد أنني نادمة على يوم واحد قضيته في كنفك و لو عاد بي الزمن فلن أقبل بغير ما كنت فيه معك •• أمسك كفها و قبلها بهدوء و عادا مجدداً

يراقبان السماء معا •• كانت سميحة تريده أن يتكلم ، تريد أن تختزن في ذاكرتها الكثير الكثير من حديثه لتسترجعها فيما هو قادم من أيامها ، لكنها أيضا كانت تريده

هكذا صامتا يحتضن كفها بكفه و قلبها بقلبه •• كانت أيضا تريد أن تقول الكثير ، كانت تريد أن توصه على نفسه ، تخبره أنها قلقه على صحته ، تسأله أن يبعث لها كثيرا

، لكنها لم تقل ، اكتفت بالضغط على كفه •• و كان يريد أن يقول الكثير ، و يسمع منها الكثير ، كان يعرف أنه رجل لا يجيد التعبير و لا يعرف كيف ينمق كلامه بحيث

يخلق عبارات ملتهبة تعبر عما يجيش بداخله من مشاعر ، كانت مشاكلهم في بداية الزواج تصب كلها في عجزه عن الكلام و حاجتها له ، كان يقول لها الرجــال أفعــــال

لا أقوال ، و مــــع مـــرور الزمن اعتادت على صمته و فعله و أحبت هذا و أصبحت عبارات الحب النادرة شهـــادات مطرزة يمنحــها لها فلا تنســــاها و يقولها أحيانا

عفو الخاطر فتطير بها فرحا فيهز رأسه عجبا و يقول :

أنتن ناقصات عقل و دين •• شد على يدها و قال :

سميحة •• التفتت اليه ، قال لعيونها الجميلة :

أقسم بالله العظيم أني أحبك •• أحبك جدا •• اجتاحها الخجل و و كأنها عروس تسمع عبارة حب من زوجها ليلة الزفاف ، نكست عيونها و إن ضغطت على كفه ، قال :

 لا أحد يعرف الحياة من الموت ، و أريدك أن تسامحيني على أية غلطة أكون قد أخطأتها في حقك يوما متعمدا أو غير متعمد ، فهل تسامحيني ؟ فتحت عيونها دهشة قالت

بصوت كاد أن يصبح عاليا في هدأة الليل :

 جهاد •• لماذا تقول هذا الكلام ، إنه كلام مودع ••• أسامحك ؟ ، علام أسامحك و قد كنت لي و ستظل نعم الزوج و الأب و الحبيب ، أرجوك يا جهاد لا داعي لهذا الكلام

الآن إنك توجع قلبي •• شدها من يدها برفق و هو يبتسم و قال :

 سلامة قلبك يا غالية •• اسمعي يا سميحة سأعطيك شيئا فاحفظيه حتى يحين موعده ••