الوجه السابع

64 0 00

كانت "وعد" تحمل ل"محمد" ابن الجيران كل ود وكل حب وهو الذي ربي إلى جانبها. شجاره مع أطفال الحي صغاراً يدافع عنها. زميل دراستها منذ أربع سنوات بعدما رسب ولحقت به ولم يعودا يفترقان. أحب الموسيقى لعلمه ولعها بها. لأجل ذلك كون فرقة موسيقية، ودعاها إليها بعدما شجعها على الغناء. حتى هواياتها شاركها فيها. رقيق الروح "محمد"، أحبها في صمت، وظن أنها تعشقه أيضاً. لم يصارحها يوماً، ولكنه ألمح لها بذلك غير ما مرة، بيد أنها لم تفهم إشاراته وتلميحه، أو أنها لم ترد أن تفهم ذلك حتى لاتضيعه وتخسر أخاً أهداها إياه الحي الذي كانت تسكنه. كان ينتظر فرصته، وانقبض لما رآك في الحفلة تقترب منها. وغضب اليوم في صمت، وما أكثر صمته! كان يريدها أن تعلم أنه منزعج من تصرفها، لأجل ذلك حينما سلمت عليه "وجد" رد عليها بينما رمى "وعداً" بنظرة لم تفلح في فك شفرتها لأنها لم تتعودها منه. "محمد" الوديع، حتى في وعيده بالمقاطعة، صامت لا ينطق بشيء. نظرته لها كانت كل كلامه. هي أيضاً كانت تنتظر فرصتها لتعبر عن شعورها اتجاهه. أخاً لها دوماً عدته. لم تره حبيباً أو زوجاً تعده أن تعامل أمه كأمها التي لم ترها، ولم تحلم به يوماً يقرئها وعد الأزواج. وبينما كانت مترددة ما بين نشوة التعرف على الحب، وبين الخوف من فقدان أخ عزيز، كانت الأخرى تسكن في أعماق الحيرة. ما عساها تفعل لصد "رافان" الذي أوكل إليها قبلاً تنظيم مهمة سهرة عيد ميلاد أختك "سهد" تقرباً إليها؟ أحسن إليك من حيث لا يدري. لو لم يفعل لما دعت "وجد" فرقة "محمد" الموسيقية، ولما قابلت الحب.

مكتوب لقاؤكما في لوح المقدرات، وحبكما يليه في السطر الثاني الذي شرعتما تقرآنه معاً وتعيشان تفاصيل دقائقه. كأنكما تعلمان أن لحظات السعادة لا يمكن التكهن بمعاودة مصادفتها، فأقبلتما عليها تغرفان منها دون انقطاع وتشبعان ظمأكما. أكنت لأتيه عن ما يحمل وجه كل منهما وهما تدخلان عليّ ذاك المساء؟

وأذرك ممتطياً سيارتك فرحاً مبتهجاً عائداً إلى رباطك، فرحاً جذلاً، لأعود بك إلى هنا، تاونات الجبال والرجال، راكنا إلى مصطبتك، تقتات من صوتي بنهم تريد الوصول إلى حلي المقترح.

أعيدك إلى هنا حيث بداية الأشياء، وميلاد الحكاية التي تجتر الآن خيبتها. قد تقول:

وما ذنبي؟ ولا يد لي في حكايات أخرى لأجيبك بحسم:

- الكل مربوط بالماضي، ولو كان قويماً سليماً إذن لسلم حاضرك، وحاضرنا معك. ثم ألا ترى معي أن ماضيك يلاحقك مسرعاً يحاول الإمساك بك مهما أسرعت في الفرار منه؟

لاحل أمامك إلا أن تتعرف على عدوك، ماضيك. وتواجهه بإرادة هزمه ودحره، وإلا ستعيش معلقا بين ماضيك وحاضرك، فاقدا مستقبلك.

طيلة أشهر ثلاث تواترت لقاءاتكما بمقهى "الموعد" السلاوية، تبسطان مشاعر صادقة وحميمة، وأضحت طاولة في أقصى يسار الطابق العلوي وطنا لكما، تحتفي بالحب والحياة معكما. لكأني أبصر طيفيكما بعدكما جالسين يتناجيان، ويرسمان طريقكما التي ستمشيانها متحاذيين.

وطيلة تلك المدة، احتفظت بغصة كذبتك الصغيرة عليها. وتستجمع كل قواك الكامنة، وتستدعيها من معاقلها، بيد أنك ما إن تجلس أمامها لمصارحتها حتى تجبن، وترتد عزائمك مخافة أن تضيعها من بين يديك. وكنت واهما. لم يكن يهمها من شيء غيرك. ما العيب في أن تكون غنيا أو معدما؟ كنت الوحيد الذي تراه وتؤمن به. لو صارحتها، في أي وقت، لوفرت عليكما مشوارا طويلا وعذابات كبيرة، ولكن لابأس. كنتما قاصرين في الحب تتعلمان، تخطئان وتصيبان، تتعثران وتقومان.

وانتصب إلى جانب كذبتك الصغيرة، طيف "محمد" بينكما، وهو الذي عدته دوما أخا لها، تبث له أمانيها المخفية حتى إنها أوشكت أن تطلعه على علاقتكما، بيد أن أملها خاب، وتكسرت موجة أمانيها عند صخرة اعترافه لها ذات يوم بشيء صك سمعها، ولم تنتظره قط مسبقا، ولا توقعت حدوثه، إذ ألح في طلب مقابلتها والحديث إليها منفردة، وزاد أن دعاها إلى "الموعد"، واستفحل الأمر وتعاظم عليها أن جلسا في طاولتكما، وطنكما، فتأكدت أنه يعلم حكايتكما، وأنه بلاشك كان يتعقب خطواتكما، حتى يعلم أين كنتما تجلسان؟

الحب مجنون، وإذا ما كان مبتور الأطراف، ناقصها، وانتفت عنه عوامل النجاح، الطرف الآخر، يضحي مدمرا قاتلا لصاحبه ولمن يحب. كان بادي الارتباك، ظاهر العذاب.

- لست أدري من أين أشرع حديثي؟

تطلعت إلى وجهه الأسمر البريء كأنها تراه لأول مرة، وتتعرفه:

- "محمد"، ما بك؟ هل الأمر مهم لهذا الحد؟

- أكثر مما تتصورين. أنا يائس، ومرهق من طول التفكير. أحس رأسي ستنشطر نصفين.

ذهلت لما يصلها منه، وهي التي عهدته متزنا خالي البال، فتساءلت متوجسة:

- ألق ما لديك علي أساعدك، وأنت تعلم قدرك عندي...

قاطعها:

- تلك هي المشكلة، أو أنت هي مشكلتي.

بغتت وهي تهتف.

- أنا؟

- نعم أنت، وتحسبينني أعمى لا أكاد أبصر شيئا من حولي، وذاك ما يشقيني.

بدت كأنها لم تع جيدا ما يود قوله.

- أفصح عما لديك، فأنا لم أعد أفهم.

صدر صوته من صدره كالحشرجة ألما بما سيبوح به لها.

- ذاك الشاب الثري الذي صرت تقابلينه.

- تقصد...

- نعم هو، إنك بفعلك ذاك تغتالين أحلامي معك، وتطعنينها في ظهرها.

- ماذا تقصد؟

- أحسب أن الأمور جلية أمامك. كم يلزمك من الوقت لتعلمي أني أحبك؟

وأمسك بيدها لحظة دخولك لتجده يناجيها حبه، ويبث لها ما يحمل قلبه من حب عاصف جارف. كانت توليك ظهرها، وتعرفت إلى وجهه كما تعرفت إليها، وما كنت لتتيه عنه وهي مرتك الثالثة التي تصادفه خلالها. حسبتهما يتناجيان، وحسبت أنها كانت تخدعك ولو أعملت عقلك قليلا لأدركت أنكما كنتما على موعد هنالك. كانت تنوي أن تدخل عليهما، فتعرفك عليه كأخ، لكن... وانسحبت غاضبا، وشيطان الغيرة يعمي عينيك، ويهمس في أذنك:

- خدعتك الملعونة.

لو بقيت لحظة أخرى لرأيتها تسحب يدها من يده، ولو اقتربت منهما أكثر لسمعتها تقول له:

- وأنا أيضا أحبك كأخ كبر إلى جانبي، وليس كحبيب يشاركني الحياة. لاأملك إلا قلبا واحدا وهبته إلى من تلمح إليه.

بدا كشبح اليأس، وصوته الخيبة والمرارة.

- ألأني فقير، وهو ميسور؟

- ميسور؟ إنك لا تفهم يا "محمد"، بل هو موظف عادي.

- لا تحاولي خداعي.. إنه ابن عائلة فاحشة الثراء في العاصمة. أتذكرين الحفلة التي دعتنا إليها "وجد"؟ لقد كانت حفلة ميلاد أخته. ليلتها دنا منك، وتعرف إليك. ثقي بي، إنه لايصلح لك، بل إنه لايراك إلا متعة لحظة بينما أنت عمري كله.

وقع خبر كذبك عليها وقعا أليما موجعا، وصعقت لتصريح "محمد" أخيها بهذه العاطفة الغامضة التي حلت عليه فجأة مع ظهورك في حياتها، وأغاضها غدرك ولؤمك. أياما طويلة معك ظنتها ستخلد بخلود حبكما، ولكنك ما كنت إلا متلاعبا بها وبمشاعرها بيد أنها لم تشأ أن تظلمك، وتحكم عليك دون التحقق. وما يدريها؟ لعل جنون "محمد" قاده إلى اصطناع كل هذه الكذبة للإيقاع بكما.

كنت ملاكا لايكذب ولايتلاعب بعاطفة نبيلة كهذه أم أن شيطانا محتالا يسكنك ويحركك. هل أعماها الحب عن حقيقتك المغرضة؟

وخسرت "آمال" رهانها مع "ليلى"، وضاع منها خاتم ماسي نفيس، كما ضعت أنت من بين يديها وأحنقها خسرانها لكما فأجمعت أمرها على ضرورة الإنتقام منك وإسقائك من الكأس نفسها التي أسقيتها منها دون علمك، وجعلت تنتظر وتتحين نهزة تحقيق آمالها وإشفاء غرورها. وكان أن أتاها الفرج من حيث لاتدري. اتصل بها "رافان" ذات صباح يطلب لقاءها. كان يعلم مجهوداتها المتواصلة للحاق بك ولإيقاعك في حبائلها. أراد الإيقاع بها أيضا بعدما أوقع "وجد" المسكينة التي ما استطاعت التصدي لإعصاره الجارف، وأذعنت له في أكادير. كانت دعوته ل"آمال" على الغداء لا تقاوم، وهو الإمبراطور الثالث. وبعد تقديمات المجاملة كعصيرهما الذي استبق الطبق الرئيسي، ابتدرها:

- تعلمين "آمال" سر نجاح المرأة.

رفعت حاجبيها المنحوتين وقد اتسعت ابتسامتها كأنها لم تتوقع منه ذلك، فاستدرك يعد على إبهامه وسبابته ووسطاه.

- الجمال، الأناقة والذكاء. وأعتقد أنك تملكين كل هذه المقومات، بيد أني أعيب عليك استخدامها.

أسلوبه المباشر يربك دوما محدثيه كحال "آمال" التي تصنعت غير ذلك فقالت في اكتراث غير ظاهر.

- لم أفهم.

- تضيعين وقتك وراء وهم وسراب، بينما الجنة أمامك لا تنتظر إلا أن تشرعي أبوابها وتدخلينها لتتربعي على عرشها.

ازدادت ابتسامتها اتساعا وهي تقول:

- زد على كوني غبية، فأنا عمياء لاأبصر.

هز رأسه يؤكد دعابتها.

- نعم عزيزتي. ماذا تريدين ب"قاسم" وهو شاب طائش لا يقدر حق من يحبه، بينما تستطيعين بمجهود أقل الظفر بمن هو أغنى منه؟

حسبته يمهد ليعرض صحبته عليها فقالت بكبر:

- القلب وما يريد، وما نملك إلا اتباعه.

قاطعها مستهزئا:

- الحب؟ لا تحاولي خداع نفسك، وخداعي معك. إننا نتشابه كثيرا، أنت وأنا. أتعلمين أني انطلقت يوما من الصفر كما فعلت أنت؟ وهذا ما يجعلني أتعاطف معك، ولا دخل للترهات فيما نحن خائضان فيه. ويمكنك سماع اقتراحي إذا أردت.

تساءلت مستطلعة:

- اقتراحك، أي اقتراح تقصد؟

- نتعاون سويا حتى يحقق كل منا هدفه. سأعمل على تقريبك من حماي العزيز، ويبقى عليك إعمال فتنتك وجمالك وحيلتك لتتمكني منه وتدخلي جنته. وبذلك تحققين رغبة طالما ساورتك: الغنى. وهدفا آخر قريبا: الإنتقام من ابنه. فماذا تقولين؟

لم تكن تتخيله يمهد لأمر كهذا، فقد عدته يفعل لأجله إذ تصورته أغرم بجمالها. لذلك تفأجات كثيرا للأمر. قالت بعد أن هضمت وقع المفاجأة والإبتسامة لا تكاد تفارق وجهها الجذاب:

- لا أحد يرفض دخول الجنة.

واستدركت بعد حين.

- هذا هدفي كما تعلم، فما هو هدفك؟

استشعرت شيئا رهيبا لأول مرة في "رافان" على أنها كانت تعرفه من قبل، وكأن شخصا آخر يتحدث من داخله.

- إن كان هدفك دخول الجنة، فإن هدفي امتلاكها.

كان هذا "رافان" الذي لبس ثوب الخديعة معكم، وبهرتكم أخلاقه. استطاع النفاذ إلى قلب أختك "سهد". لهفي عليك يا ابنتي. شرخا عظيماً تركه الملعون في نفسك. ولكنا سنلملم كل أجزائنا لنعيد تصحيح أيامنا وتقويم اعوجاجها. ما لم تكن تعلمه هو أنه بعدما أخضع "وجدا" له، جعل يتجسس عليك إلى أن علم بعلاقتك و"وعد" وتعقبكما غير ما مرة ولحظ تعقب "محمد" لخطاكما أيضا. ولأمر ما أراد أن تدوم علاقتكما، لأنها من جهة تلهيك أكثر وقت ممكن. لكأنك سابح على الدوام في ملكوت العشق لاتكاد تنزل أرضا لتدرك ما يحاك ضدك في غفلة منك. ومن جهة أخرى، يبقي "آمال" تحت خدر الغضب والانتقام.