مرت الأيام رتيبة ومملة لم يغير رتابتها إلا زواج احمد وحنان الذي جمع شمل جميع الأصدقاء القدامى .. وكانت ذكريات الجامعة هي حديثهم , كان لرسالة حسين التي أرسلها مهنئاً العروسين بالغ الأثر في إشاعة البهجة في نفسيهما .. كانا يتمنيان لو حضر بنفسه ،ظلت الرسائل المتبادلة بين الصديقين على كثرتها لا تعبر عن ما يدور في نفسيهما وقد عرف احمد من بعض الرسائل لحسين انه يتلقى تدريب شاق في معسكر للقوات المسلحة , حيث أرسل لهم صور بملابس التدريب كانت مسار ضحك الأصدقاء لفترة طويلة حيث بدا بشعره المحلوق تماماً أشبه بمعتادي الإجرام القدامى ...
ظلت رسائله تحكي بالتفاصيل المملة من يوم دخوله المعسكر, و روى انه عندما طرحوهما رضا على بطونهم وانحنى عليهم جندي يحمل بندقية آلية وأطلق حولهم الرصاص ولأول مرة سمع دوي الرصاص على بعد سنتمترات من أذنه وهو راقد بلا حراك , كما لم ينسى أن يخبر أصدقاؤه عن المسافات الطويلة التي كان يزحفها تحت الأسلاك الشائكة وسط صيحات المدربين الساخطة، للذين لا يؤمنون أبدا بالأداء العسكري لخريجي الجامعات ويعتبروهم مؤهلين وفي حاجة إلى مزيد من التدريب الأكثر قسوة , وذكر انه حين غضب منهم احد المدربين قال لهم في سخط " الجيش مصنع الرجال فإذا كان أحدكم لا يثق في انه رجل لا يحضر إلى هنا " وذكر نزوله بالمظلة من ارتفاع ألف قدم ، كانت تجربة مخيفة للغاية حيث انه عندما كان سابح في الفضاء شعر بأنه نسر يحلق عاليا وتذكر كلام صديقه عن انفصال الروح عن الجسد , وخيل له انه روح تنطلق هائمة في الفضاء حيث كانت الأرض تحته والحقول كأنها مفرش مطرز بخيوط خضراء وصفراء وكان النزول بالمظلة متعه لا تضاهيها متعه, كما اخبره انه تذكره مرة أثناء التدريبات الدفاع الأعزل عندما صاح احد المدربين " ان الدفاع الأعزل يتطلب القوة والعزم وان لم تقتلهم قتلوك ".. تذكر قطاع الطرق الذين لا يعرف مصيرهم حتى الآن ....
كانت الرسائل تتوالى تباعا حتى بعد أن وضعت حنان مولودها الأول الذي أسموه حسين وقد اخبر احمد صديقه بذلك في خطاب مطول فأرسل لهم طرد بالبريد فيه ملابس للطفل وأخذت رسائله تأخذ الطابع الجدي وأصبح حسين ضابط في الجيش وانضم إلى كتيبة المشاة التابعة للجيش السابع المرابطة شرقي البصرة وانقطعت رسائل حسين لفترة طويلة تصل إلى تسعة أشهر بعد آخر رسالة قال فيها انه في منطقة هور حويزة أوجس احمد خيفة , ولكنه كان يقاوم هذه الخواطر المزعجة التي تدور في ذهنه ...
وهو جالس جوار سرير طفله حيث كانت حنان تعد طعام الإفطار , لم يخبر زوجته بانقطاع أخبار حسين حتى لا يسبب لها انزعاج كالذي يعانيه ولكنها كانت تسأله مرارا إذا كانت هناك رسائل منه , نهض من جوار ابنه وتناول إفطاره الذي أعدته له في صمت وعلى عجل وخرج .. ظل يقود سيارته في شرود حتى انه كاد أن يدهس احد المارة ووصل إلى الوكالة السياحية التي يعمل بها حيث دخل من بابها الدوار في خمول وجلس خلف مكتبه الفخم ولم تسعه الفرحة عندما لمح مظروف به طوابع يعرفها تماماً , أخيرا وصلت الرسالة التي كادت تزهق روحه ..
خطف المظروف كأنه خشي أن يطير من يديه واخذ يقرا رسالة حسين التي كانت بها مفاجئة سارة , حيث اخبره إن سبب انقطاع خطاباته انه كان في خضم المعارك هور حويزة لصد الهجوم الإيراني الشهير الذي قرأ عنه احمد في بعض المجلات حيث كانت الصور البشعة للجنود الإيرانيين للذين قتلوا في الاهوار والمستنقعات واخبره انه قاتل أيام بلياليها و بأنه بقي له أيام في الجبهة التي يسودها الهدوء الآن وانه سوف يعود إلى بغداد وهو عازم على الزواج بأسرع وقت واخبره بان الدعوة مفتوحة لهم لزيارته في بغداد .. طوى أحمد الرسالة ووضعها في جيبه ونادى احد معاونيه وأمر بان يحجز له مقعداً في طائرة اليوم المتجهة إلى بغداد ،حيث لم يبق حسب تاريخ الرسالة سوى يومين للزواج ، اندفع خارجاً والدنيا لا تسعه من الفرحة ...
ووصل إلى منزلهم ووجد حنان ترقد ساهمة جوار طفلها النائم .
زعق د بملء فيه وقفزت حنان مذعورة
- إني اعد لك مفاجئة
- ما هي هذه المفاجئة التي تجعلك تزعق كطرزان؟!
- نعم.. اشعر اليوم إني طرزان
قال ذلك وقفز على الفراش بحذائه، نظرت حنان إليه معاتبة
- هل أصابك الجنون ؟!
- ليس بعد .... وصلت رسالة من حسين
بان الارتياح على وجهها وردت مبهورة. الأنفاس
- لا اصدق ذلك .. هل هو بخير
- نعم بخير ويزعم الزواج .. ليس على خط النار بل في بغداد
- ماذا تنوي أن تفعل
- قررت السفر بطائرة اليوم , وأنت والصغير ستبقى مع أمك في أم درمان حتى أعود
- إذا كان ليس هناك إمكانية لذهابي معك سأنزل السوق وادخر له هدية
قالت ذلك وانصرفت إلى حجرة مجاورة ثم عادت وأخذت مفتاح السيارة وخرجت واستلقى احمد في فراشه وهو يحملق في السقف ثم نهض وشرع في تغير ملابسه وتناول ساعة المنبه وعدل جرسها على موعد قيام الطائرة التي ستقلع في الثانية صباحاً ثم استلقى لينام , لم يشعر بعودة حنان التي حضرت تحمل إكليل من زهور وكانت تعرف محبة حسين للزهور التي تعج بها مدينته بابل ونظرت إلى زوجها النائم في حب وذهبت إلى فراشها بعد أن تناولت أقراصها المعتادة حتى تنوم نوما هادئا .. ومضت الساعات بطيئة ...
فجأة هب احمد مذعور على صوت بكاء حسين الصغير الممزوج بدوي جرس المنبه .. وكان ضوء القمر الذي غطته السحب يتسلل شاحباً إلى داخل الحجرة , وكانت هناك رياح خفيفة تداعب ستائر النافذة .. شعر احمد شعوراً لم يعرف مصدره ،نظر إلى زوجته التي تغط في سبات عميق بعد الحبوب التي تناولتها , نهض واتجه عند فراش ابنه الذي كان يبكى بحرقه وحمله بين ذراعيه واخذ ينظر إليه في توجس , وشعر أن هناك شي بارد يداعب ظهره قفز كالملسوع ،وجد حافة الستائر تذكر انه أغلق النافذة قبل النوم " أي روح جاءت لزيارته ليلاً و من الذي فتحه " ظل الشعور بالانقباض ينتابه وهو يهدهد ابنه حتى نام، نظر إلى ساعته تذكر موعد الطائرة ،وضع الطفل في فراشه ونهض وغير ملابسه على عجل وحمل الحقيبة وخرج وأغلق الباب خلفه بهدوء ولازال صوت الريح الخافت يداعب أذنيه وبدأت تمطر في الخارج بغزارة "رباه ما هذا الجو التعس ،هذه الأمطار ليست معتادة " عاد مرة أخرى إلى الحجرة وأغلق النافذة والبرق يمزق السماء في الخارج كأنه نصلاً حادا وملقياً ظلال موحشة داخل الحجرة , التفت إلى إكليل الزهور الذي كاد ينساه وتناوله وخرج تحت وابل الأمطار وفي الطريق لوح لسيارة أجرة تسير في ذلك الوقت المتأخر من الليل مترنحة وركب السيارة واندفعت نحو المطار ومازال الانقباض مسيطر عليه حتى عندما أقلعت الطائرة، بدت الخرطوم شاحبة من نافذة الطائرة،أشاح بوجهه عنها واخرج مجلة نيوزويك كان قد اشترها من المطار ودسها على عجل في حقيبته , كانت نظرة واحدة إلى غلافها كافية بان يلقي بها بعيداً، كانت تحوي صور بشعة للحرب العراقية الإيرانية ...
صور يد آدمية لرجل أنطمر تحت التراب برزت اليد على السطح تلعن الظروف التي أوجدت هذه الحرب العبثية " لماذا قتلت يا قابيل أخاك هابيل وصنعت لنا هذا الإرث المشين؟!!" كان هذا آخر خاطر دار في ذهنه المشوش ومع أزيز الطائرة المنتظم استلقى في كرسيه وراح في سبات عميق .