فصل ـ 16 ـ

24 0 00

 استعدت العبارة :

ـ مات النقراشى ؟

 جاء صوت فيصل مصيلحى على التليفون محملاً بالتوتر :

ـ قتله عضو فى الإخوان المسلمين .

ظل متكتماً صلته بجماعة الإخوان المسلمين ، لكننى كنت أدرك ـ من كلماته وتصرفاته ـ ارتباطه بالجماعة على نحو ما . أطالع الصحف . أكتفى بنظرة تساؤل صامتة إلى عينيه . تومضان بما أحدس أنه يخفيه : قتل القاضى أحمد الخازندار . إلقاء القنابل والمتفجرات على أقسام البوليس فى الخليفة والموسكى وباب الشعرية والجمالية ومصر القديمة والأزبكية والسيدة زينب . إلقاء القنابل ـ فى ليلة عيد الميلاد ـ على محال يرتادها جنود الجيش البريطانى . توالى الانفجارات فى ممتلكات اليهود : بنزايون ، جاتينيو ، شركة الدلتا التجارية ، ماركونى ، شيكوريل ، شركة الإعلانات المصرية ، تدمير بيوت فى حارة اليهود ، قتل حكمدار القاهرة سليم زكى ، إلقاء قنبلة على رجال الأمن بالمدرسة الخديوية ..

فضل فيصل أن نلتقى فى قهوة فاروق . مشكلات صغيرة ، علينا إنهاؤها قبل أن نلتقى فى العلن . روى ـ بكلمات سريعة ـ ظروف قتل النقراشى . أطلق عليه طالب البيطرى عبد المجيد أحمد حسن ثلاث رصاصات ، وهو يتهيأ للصعود إلى مكتبه بوزارة الداخلية .

بدا فيصل ميتاً من الخوف وهو يهمس بقرار حل جماعة الإخوان المسلمين وشعبها ، إغلاق الأمكنة المخصصة لنشاطها : المصانع والشركات والمعاهد والمستشفيات ، ضبط أوراقها ، وثائقها ، سجلاتها ، مطبوعاتها ، أموالها ، كل الأشياء المملوكة لها . حتى شعبة الإخوان فى البناية المطلة على ميدان أبو العباس ، رآه مغلقاً ـ فى وقفته أعلى الدحديرة الخلفية للجامع ـ وأمامه عساكر ..

قلت :

ـ هل ينطبق القرار على الشركة ؟

 ـ أى شركة ؟

 ـ شركتنا .. شركتك ..

ـ لا شأن لهم بها . ورثتها عن أبى ..

ونقر جبهته بإصبعه :

ـ فى دولاب حجرة هناء زكريا آلة طباعة بالبالوظة . لابد من وسيلة لإخفائها ..

هل كان يمارس فى الشركة نشاطاً سياسياً ؟

 اعتدت ـ فى عودتى إلى البيت على الكورنيش ـ رؤية الضوء المنبعث من خصاص النافذة المغلقة . أحدس بقاءه فى الشركة لإنجاز ما يتطلب السهر . ربما كان يلتقى بمن لا أعرفهم ـ هل هم أعضاء فى الجماعة ؟ ـ أو يدير آلة الطباعة فى منشورات يخفيها ؟

 أدركت أنه تخلى عما ألفته منه : إذا استعصت عليه مشكلة ، أو بدت نذرها ، لجأ إلى جزيرته الخاصة ، يحيطها بأسوار عالية ، لا تأذن لأحد برؤية ما بداخلها ..

همست بما يقلقه للدكتور جارو ..

قال :

ـ ما أعرفه أن الاعتقالات شملت الشيوعيين أيضاً ..

وتنحنح ليزيل احتباس صوته :

ـ كل من اختلف مع السعديين أودع المعتقلات !

ورنا ناحيتى بنظرة جانبية :

ـ خذ من صديقك آلة الطباعة التى يخشى ضبطها ..

وأردف فى لهجة مشاركة :

ـ وجودها فى العيادة لن يثير الشكوك ..

قلت فى ذهول :

ـ هل تحتفظ بها هنا ؟

 ـ قلت إنه صديقك ..

ـ أخشى أن أعرضك لمتاعب ..

ـ عين البوليس لن تفطن إلى عيادة طبيب أرمنى عجوز ..

ورفع عيناً متسائلة :

ـ لماذا قتلوا النقراشى ؟

 قلت :

ـ اتهمه الأخوان بخيانة قضية فلسطين ..

قال فى نبرته الهادئة :

ـ قرار الحل منطقى فى ظل تحول الإخوان إلى جماعة عسكرية ..

اعتدل فى جلسته بحيث واجهنى . قال لنظرتى المستغربة :

ـ ما فعلته لأن صديقك تهدد فى حريته . أرفض ـ لأسباب تعرفها ـ نفى أى إنسان ومصادرة رأيه وإلغاء حريته .

توقع أن يرد الإخوان المسلمون على قرار الحل : الضربة مؤلمة ، لكنها ليست قاتلة . المئات ـ مثل صديقك ـ خارج المعتقلات . هؤلاء لن يسكتوا . لابد أن يردوا . عرف الإخوان التشكيلات المسلحة والعمل السرى واستخدام المتفجرات . لم تعد الكلمات وحدها وسيلتهم إلى التعبير . علينا أن ننتظر مفاجآت ..

عاب على الإخوان المسلمين أنهم أنفقوا الأموال فى شراء السلاح ، والتدرب على استخدامه . لكن السلاح ظل فى المخازن ، حتى بدأ استخدامه فى عمليات الاغتيال والتفجير . أتشكك فى الدعاوى الدينية منذ استغلت حكومة الأتراك جهل مواطنيها المسلمين بحقيقة دينهم. حرضتهم على قتلنا باعتبارنا كفاراً !

استعدت لقاءاتنا . لم يكن يشير إلى الدين على أى نحو . وحين أتمتم " الله أعظم " بتعالى صوت مؤذن جامع سيدى على تمراز بالأذان " الله أكبر " لم يكن يبدى ملاحظة ما ..

قال :

ـ موقفى ، رأيى ، ضد الإخوان المسلمين . لا شأن لذلك باختلاف الديانة . ورثت عقيدتى ، ولا شأن لى بها . إجازتى الأسبوعية أقضيها فى البيت ، لا أتردد على الكنيسة . أعامل البشر باعتبارهم كذلك . ما فعله الأخوان المسلمون فى عهد صدقى أثارنى . مهادنة صدقى جريمة ارتكبها من ادعوا انتماءهم إلى دين متطور . أثق أن الإسلام دين متطور . إذا كان النقراشى قد أخطأ فى حل الإخوان المسلمين ، فإنهم قد أخطأوا بعمليات الاغتيال والتفجير ..

وعلا صوته :

ـ من يضع يده فى يد الديكتاتور فهو يوافق على أفكاره وتصرفاته !

ثم غير صوته :

ـ كان فى بالى أنى غريب عن هذه المدينة ، غريب عن مصر كلها . لا شأن لى بما أراه أو أسمعه . ثم جرنى التعاطف مع الفلسطينيين إلى الاهتمام بما يعانونه ، ثم اجتذبتنى الأحداث فأنا ـ كما ترى ـ أنشغل بها ..

استطرد فى ابتسامة متكلفة :

ـ التقاط طرف الخيط جر البكرة كلها ..

 ***

كانت مفاتيح الشركة معى . أذهب إلى الشركة فى كل صباح . أتوقع ضباط المباحث ـ أمام الباب ، أو فى الداخل ـ والإغلاق ، والشمع الأحمر ، والحراسة ، وبطاقتك الشخصية ، والسؤال : من تريد ؟

 ألغت الحكومة قرار حل جماعة الإخوان المسلمين . تشجع فيصل ـ بغياب ما يقلق ـ فعاد إلى الشركة ..

ـ الحمد لله أنى لست واحداً من الآلاف الذين أودعوا المعتقلات .

قلت فى نبرة لوم :

ـ لم تبلغنى بعضويتك فيها ..

تردد فى الإجابة ، ثم قال :

ـ ربما لأن الموضوع شخصى .

لم أتحدث عن الموضوعات الشخصية التى يقاسمنى فيها الرأى : تحقيقات عيسوى أبو الغيط ، عيادة الدكتور جارو ، علاقتى بنورا ..

اكتفيت بالقول :

ـ الحمد لله !

أطرق إلى الأرض ، ثم رفع عينين منداتين :

ـ أسخف الأمور أن تحتفظ فى داخلك بخوف لا تصارح به أحداً !

أردف فى كلمات متباطئة :

ـ الجهاد يتطلب شجاعة .. لا أمتلكها !

ـ حاولت أن ألتقى بك فى صلاة الجمعة بعلى تمراز ..

ـ اكتفيت بالصلاة فى البيت ..

ثم وهو يتشاغل بتقليب أوراق فى يديه :

ـ همنى أن أبتعد عن الجوامع ..

تكلم عن الحزن الذى تملك مشاعره ، وهو يحرق ـ فى دورة المياه ـ كل ما له صلة بالجماعة . أوراق ومطبوعات ـ يرى أنها مهمة ـ ائتمنته الجماعة عليها . حتى خطب الإمام وكتب قيادات الجماعة . حتى الصورة الوحيدة وهو يتابع درساً للإمام البنا . أحزنه مجرد التفكير فى رد السؤال ، بعد أن تزول المحنة : أين الأوراق التى لديك ؟

 لم تمتد إلى المكتب يد التفتيش ، ولا الإغلاق . شاب شعورى بالراحة إدراك أن فيصل مصيلحى كان أداة هامشية فى نشاط الجماعة . لم تلحظها عين الدولة ، فأهملتها .