استعدت العبارة :
ـ مات النقراشى ؟
جاء صوت فيصل مصيلحى على التليفون محملاً بالتوتر :
ـ قتله عضو فى الإخوان المسلمين .
ظل متكتماً صلته بجماعة الإخوان المسلمين ، لكننى كنت أدرك ـ من كلماته وتصرفاته ـ ارتباطه بالجماعة على نحو ما . أطالع الصحف . أكتفى بنظرة تساؤل صامتة إلى عينيه . تومضان بما أحدس أنه يخفيه : قتل القاضى أحمد الخازندار . إلقاء القنابل والمتفجرات على أقسام البوليس فى الخليفة والموسكى وباب الشعرية والجمالية ومصر القديمة والأزبكية والسيدة زينب . إلقاء القنابل ـ فى ليلة عيد الميلاد ـ على محال يرتادها جنود الجيش البريطانى . توالى الانفجارات فى ممتلكات اليهود : بنزايون ، جاتينيو ، شركة الدلتا التجارية ، ماركونى ، شيكوريل ، شركة الإعلانات المصرية ، تدمير بيوت فى حارة اليهود ، قتل حكمدار القاهرة سليم زكى ، إلقاء قنبلة على رجال الأمن بالمدرسة الخديوية ..
فضل فيصل أن نلتقى فى قهوة فاروق . مشكلات صغيرة ، علينا إنهاؤها قبل أن نلتقى فى العلن . روى ـ بكلمات سريعة ـ ظروف قتل النقراشى . أطلق عليه طالب البيطرى عبد المجيد أحمد حسن ثلاث رصاصات ، وهو يتهيأ للصعود إلى مكتبه بوزارة الداخلية .
بدا فيصل ميتاً من الخوف وهو يهمس بقرار حل جماعة الإخوان المسلمين وشعبها ، إغلاق الأمكنة المخصصة لنشاطها : المصانع والشركات والمعاهد والمستشفيات ، ضبط أوراقها ، وثائقها ، سجلاتها ، مطبوعاتها ، أموالها ، كل الأشياء المملوكة لها . حتى شعبة الإخوان فى البناية المطلة على ميدان أبو العباس ، رآه مغلقاً ـ فى وقفته أعلى الدحديرة الخلفية للجامع ـ وأمامه عساكر ..
قلت :
ـ هل ينطبق القرار على الشركة ؟
ـ أى شركة ؟
ـ شركتنا .. شركتك ..
ـ لا شأن لهم بها . ورثتها عن أبى ..
ونقر جبهته بإصبعه :
ـ فى دولاب حجرة هناء زكريا آلة طباعة بالبالوظة . لابد من وسيلة لإخفائها ..
هل كان يمارس فى الشركة نشاطاً سياسياً ؟
اعتدت ـ فى عودتى إلى البيت على الكورنيش ـ رؤية الضوء المنبعث من خصاص النافذة المغلقة . أحدس بقاءه فى الشركة لإنجاز ما يتطلب السهر . ربما كان يلتقى بمن لا أعرفهم ـ هل هم أعضاء فى الجماعة ؟ ـ أو يدير آلة الطباعة فى منشورات يخفيها ؟
أدركت أنه تخلى عما ألفته منه : إذا استعصت عليه مشكلة ، أو بدت نذرها ، لجأ إلى جزيرته الخاصة ، يحيطها بأسوار عالية ، لا تأذن لأحد برؤية ما بداخلها ..
همست بما يقلقه للدكتور جارو ..
قال :
ـ ما أعرفه أن الاعتقالات شملت الشيوعيين أيضاً ..
وتنحنح ليزيل احتباس صوته :
ـ كل من اختلف مع السعديين أودع المعتقلات !
ورنا ناحيتى بنظرة جانبية :
ـ خذ من صديقك آلة الطباعة التى يخشى ضبطها ..
وأردف فى لهجة مشاركة :
ـ وجودها فى العيادة لن يثير الشكوك ..
قلت فى ذهول :
ـ هل تحتفظ بها هنا ؟
ـ قلت إنه صديقك ..
ـ أخشى أن أعرضك لمتاعب ..
ـ عين البوليس لن تفطن إلى عيادة طبيب أرمنى عجوز ..
ورفع عيناً متسائلة :
ـ لماذا قتلوا النقراشى ؟
قلت :
ـ اتهمه الأخوان بخيانة قضية فلسطين ..
قال فى نبرته الهادئة :
ـ قرار الحل منطقى فى ظل تحول الإخوان إلى جماعة عسكرية ..
اعتدل فى جلسته بحيث واجهنى . قال لنظرتى المستغربة :
ـ ما فعلته لأن صديقك تهدد فى حريته . أرفض ـ لأسباب تعرفها ـ نفى أى إنسان ومصادرة رأيه وإلغاء حريته .
توقع أن يرد الإخوان المسلمون على قرار الحل : الضربة مؤلمة ، لكنها ليست قاتلة . المئات ـ مثل صديقك ـ خارج المعتقلات . هؤلاء لن يسكتوا . لابد أن يردوا . عرف الإخوان التشكيلات المسلحة والعمل السرى واستخدام المتفجرات . لم تعد الكلمات وحدها وسيلتهم إلى التعبير . علينا أن ننتظر مفاجآت ..
عاب على الإخوان المسلمين أنهم أنفقوا الأموال فى شراء السلاح ، والتدرب على استخدامه . لكن السلاح ظل فى المخازن ، حتى بدأ استخدامه فى عمليات الاغتيال والتفجير . أتشكك فى الدعاوى الدينية منذ استغلت حكومة الأتراك جهل مواطنيها المسلمين بحقيقة دينهم. حرضتهم على قتلنا باعتبارنا كفاراً !
استعدت لقاءاتنا . لم يكن يشير إلى الدين على أى نحو . وحين أتمتم " الله أعظم " بتعالى صوت مؤذن جامع سيدى على تمراز بالأذان " الله أكبر " لم يكن يبدى ملاحظة ما ..
قال :
ـ موقفى ، رأيى ، ضد الإخوان المسلمين . لا شأن لذلك باختلاف الديانة . ورثت عقيدتى ، ولا شأن لى بها . إجازتى الأسبوعية أقضيها فى البيت ، لا أتردد على الكنيسة . أعامل البشر باعتبارهم كذلك . ما فعله الأخوان المسلمون فى عهد صدقى أثارنى . مهادنة صدقى جريمة ارتكبها من ادعوا انتماءهم إلى دين متطور . أثق أن الإسلام دين متطور . إذا كان النقراشى قد أخطأ فى حل الإخوان المسلمين ، فإنهم قد أخطأوا بعمليات الاغتيال والتفجير ..
وعلا صوته :
ـ من يضع يده فى يد الديكتاتور فهو يوافق على أفكاره وتصرفاته !
ثم غير صوته :
ـ كان فى بالى أنى غريب عن هذه المدينة ، غريب عن مصر كلها . لا شأن لى بما أراه أو أسمعه . ثم جرنى التعاطف مع الفلسطينيين إلى الاهتمام بما يعانونه ، ثم اجتذبتنى الأحداث فأنا ـ كما ترى ـ أنشغل بها ..
استطرد فى ابتسامة متكلفة :
ـ التقاط طرف الخيط جر البكرة كلها ..
***
كانت مفاتيح الشركة معى . أذهب إلى الشركة فى كل صباح . أتوقع ضباط المباحث ـ أمام الباب ، أو فى الداخل ـ والإغلاق ، والشمع الأحمر ، والحراسة ، وبطاقتك الشخصية ، والسؤال : من تريد ؟
ألغت الحكومة قرار حل جماعة الإخوان المسلمين . تشجع فيصل ـ بغياب ما يقلق ـ فعاد إلى الشركة ..
ـ الحمد لله أنى لست واحداً من الآلاف الذين أودعوا المعتقلات .
قلت فى نبرة لوم :
ـ لم تبلغنى بعضويتك فيها ..
تردد فى الإجابة ، ثم قال :
ـ ربما لأن الموضوع شخصى .
لم أتحدث عن الموضوعات الشخصية التى يقاسمنى فيها الرأى : تحقيقات عيسوى أبو الغيط ، عيادة الدكتور جارو ، علاقتى بنورا ..
اكتفيت بالقول :
ـ الحمد لله !
أطرق إلى الأرض ، ثم رفع عينين منداتين :
ـ أسخف الأمور أن تحتفظ فى داخلك بخوف لا تصارح به أحداً !
أردف فى كلمات متباطئة :
ـ الجهاد يتطلب شجاعة .. لا أمتلكها !
ـ حاولت أن ألتقى بك فى صلاة الجمعة بعلى تمراز ..
ـ اكتفيت بالصلاة فى البيت ..
ثم وهو يتشاغل بتقليب أوراق فى يديه :
ـ همنى أن أبتعد عن الجوامع ..
تكلم عن الحزن الذى تملك مشاعره ، وهو يحرق ـ فى دورة المياه ـ كل ما له صلة بالجماعة . أوراق ومطبوعات ـ يرى أنها مهمة ـ ائتمنته الجماعة عليها . حتى خطب الإمام وكتب قيادات الجماعة . حتى الصورة الوحيدة وهو يتابع درساً للإمام البنا . أحزنه مجرد التفكير فى رد السؤال ، بعد أن تزول المحنة : أين الأوراق التى لديك ؟
لم تمتد إلى المكتب يد التفتيش ، ولا الإغلاق . شاب شعورى بالراحة إدراك أن فيصل مصيلحى كان أداة هامشية فى نشاط الجماعة . لم تلحظها عين الدولة ، فأهملتها .